الشكوى و التذمر

الشكوى و التذمر

الشكوى و التذمر: في الشكوى أصبحت أمرًا شائعًا بين الناس، حتى باتت تُعتبر عادة تلقائية. الشكوى هي تعبير عن الشعور بالعداء تجاه شخص أو ظرف معين، سواء كان ذلك بصوت عالٍ أو داخل عقلك. لا فرق، فهي تؤدي الدور نفسه في كلا الحالتين. في الشكوى و التذمر، قد تشتكي في عقلك من مكان وجودك، أو من إحساسك بأن هناك شيئًا خاطئًا في الوضع الحالي. قد تشتكي من نفسك، من هوّيتك، أو مما تقوم به .

قد تشتكي أيضًا من أشياء كان يجب أن تحدث ولم تحدث، أو من أمور حدثت وكان من المفترض ألا تحدث. وحتى سلوك الناس قد يكون موضع شكواك، فتتحدث عن كيفية تصرفهم معك. وعندما تشتكي من شخص أو ظرف، فأنت في الحقيقة تُحوِّل هذا الشخص أو الظرف إلى عدوّ، مما يجعلك تعيش في حالة عدائية. هذا الصراع الداخلي يحدث عندما لا تتصالح مع الواقع كما هو، مما يؤدي إلى خلق معاناة داخلية.

رغم ذلك، هناك شكوى إيجابية تدفع صاحبها لاتخاذ إجراء معين، مثل ملاحظة أن المطبخ متسخ. في هذه الحالة، يمكنك ببساطة أن تقول: “المطبخ متسخ” وتقوم بتنظيفه. ولكن إذا أضفت لهذه الملاحظة تعاسة وسلبية، كأن تقول: “آه، المطبخ متسخ! لماذا يحدث هذا لي؟ كيف يجرؤون على ترك المطبخ بهذا الشكل؟”، فإنك تضيف عبئًا نفسيًا لا داعي له. في كل الأحوال، ستقوم بتنظيف المطبخ، فلماذا تجعل الأمر أكثر تعقيدًا؟

الشكوى

هو نمط فكري يتبناه العقل، ويبدأ باختلاق قصة يُقنعك بتصديقها بالكامل. سواء كان التذمّر بصوت مرتفع أو داخليًا في عقلك، فإن النتيجة واحدة. هناك أشخاص يتعايشون مع التذمّر كأنه حالة طبيعية، معتقدين أنه جزء من شخصيتهم، ويستخدمونه كوسيلة لتبرير لوم الآخرين. بمرور الوقت، يصبح هذا السلوك عادة يومية تُمارس دون وعي أو إدراك.

عندما تقوم بتصنيف الآخرين باستخدام أحكام ذهنية قاسية أو تتحدث عنهم بصورة سلبية، فإنك تعزز هذا التذمّر. كثيرًا ما يهدف هذا السلوك إلى الشعور بالتفوق أو إثبات أنك على حق، مستخدمًا أوصافًا جارحة كأنها حقائق لا تقبل النقاش.

ومع استمرار هذا النمط السلبي، قد يتطور إلى أشكال أكثر حدة، مثل الصراخ أو حتى العنف الجسدي. أما إذا كان التذمّر موجّهًا نحو الذات، فإنه يتحول إلى دائرة من الشعور بالذنب واللوم، مما يؤدي إلى إيذاء داخلي للنفس ويفقد الشخص قدرته على التصالح مع ذاته.

في الشكوى و التذمر هناك الامتعاض هو الشعور العاطفي الذي يترافق مع التذمّر والتصنيفات الذهنية السلبية تجاه الآخرين. إنه حالة تشحن النفس بطاقة سلبية، تُترجم إلى شعور بالمرارة أو السخط أو الحزن أو الإحباط، وأحيانًا الإهانة. قد يمتعض الشخص من جشع الآخرين، من تصرفاتهم غير النزيهة، من افتقارهم للمصداقية، أو حتى من أفعال وتصريحات قديمة يعود عمرها لسنوات. الامتعاض يتغذى على التمسك بما كان ينبغي أو لا ينبغي أن يحدث، وعلى التمسك بماضي لا يمكن تغييره.

في الشكوى و التذمر يمثل الامتعاض شعورًا عدائيًا تجاه ما يراه الشخص سبب إحباطه، وهو في جوهره إلقاء للّوم على عوامل خارجية. وغالبًا ما يرتبط هذا الشعور بالضعف أو الإحساس بالدونية، وأحيانًا الغيرة من الآخرين. في مواجهة ما يُعتقد أنه سبب الإحباط، يبتكر الفرد نظامًا قيميًا خاصًا به يُدين به المصدر المتصوَّر لإحباطه، ليبرر نقاط ضعفه ويتجنب مواجهتها. يعمل هذا النظام كآلية دفاعية تعزل الفرد عن الشعور بالذنب، مما يمنعه من معالجة عيوبه وضعفه الداخلي. الأنا هنا تلعب دورًا أساسيًا؛ إذ تخلق عدوًا وهميًا ليحافظ الفرد على تصوره لنفسه بعيدًا عن أي لوم أو مسؤولية

النفس اللوّامة تميل بطبيعتها إلى الأنماط السلبية، حيث تجد متعة خفية في خلق قصص ذهنية تُبرز عيوب الآخرين، حتى وإن لم تكن هذه العيوب موجودة في الواقع. في أحيان كثيرة، تكون هذه العيوب مجرد سوء تفسير أو إسقاط نابع من النفس، التي تسعى لجعل نفسها تبدو على صواب وعلى تفوق دائم مقارنة بالآخرين. أما إذا كان العيب موجودًا بالفعل – سواء في الآخرين أو في نفسك – فإن التركيز المبالغ فيه عليه يؤدي إلى تضخيمه، مما يُعزز السلوك السلبي ويُكرّسه داخليًا.

هذه النفس لا تقتصر على الشعور بالامتعاض تجاه الأشخاص فقط، بل تنقله إلى الظروف الحياتية. كل حدث قد تمر به يُحوَّل إلى خصم أو عدو داخلي. تبدأ حينها التساؤلات المليئة باللوم: “لماذا يحدث هذا لي؟”، “كان يجب ألا يحدث هذا”، “أنا لا أستحق هذا”، أو “لماذا أنا هنا؟”. وفي بعض الأحيان، يتسع هذا السخط ليشمل الإله، حيث يبدأ الشخص بالشكوى: “لماذا يا الله سمحت بهذا؟”، “لماذا تكرهني وأنا أحاول أن أكون شخصًا جيدًا؟”. في هذه اللحظة، يدخل الإنسان في دوامة من لوم الذات والشعور بالذنب، متسببًا في خلق مزيد من المعاناة لنفسه دون مخرج واضح.

لكن من المهم أن نفرق بين التذمّر والمصارحة البنّاءة. الامتناع عن التذمّر لا يعني القبول بالسلوكيات السلبية أو تجاهل الأخطاء. على سبيل المثال، عندما تُخبر النادل بأن القهوة باردة وتطلب تسخينها بأسلوب هادئ، فهذا تصرف طبيعي ومقبول. أما التذمّر، فهو أن تقول: “كيف تجرؤ على تقديم قهوة باردة؟ أنتم عديمو الكفاءة!”. في هذه الحالة، تكون النفس اللوّامة قد استغلت الموقف لتحوله إلى فرصة للشعور بالإهانة والتضخيم غير المبرر، وربما تصعيد الأمور إلى مشاجرة لا طائل منها.

إن عدم التفاعل مع الأحداث السلبية لا يعني السكوت التام، بل يعني التعامل معها بحكمة ووعي دون تضخيم أو تصعيد. أن تخبر النادل بهدوء ووضوح بما تحتاجه دون أن تضيف مشاعر عدائية أو شعورًا بالظلم هو مثال على هذا التوازن.

في كثير من الأحيان، ترفض النفس التغيير لأنها تجد في التذمر متعة خفية. التذمر يمنحها شعورًا زائفًا بالتفوق على الآخرين، مما يجعلها تتمسك به وتكرره بشكل مستمر.

هل شعرت يومًا، أثناء التذمر أو إلقاء اللوم على شخص أو ظرف ما، بوجود إحساس خفيف بالرضا أو الاستمتاع في أعماقك؟ إذا حدث ذلك، فهذا مؤشر على تأثير النفس اللوّامة عليك، وهو ما يمكن تشبيهه بحالة من الوسوسة الداخلية التي تحفزها الأفكار السلبية.

إذا كنت تريد حقًا أن تتغير، فالتغيير ممكن. إدراكك أن اللوم والتذمر لا يجلبان سوى التعاسة للنفس البشرية هو الخطوة الأولى نحو التحرر. حاول أن تنتبه في اللحظة ذاتها التي يبدأ فيها صوت التذمر داخلك. لاحظ تلك الأفكار التي تتصاعد في ذهنك، وستكتشف أنها مجرد أصوات نابعة من أنماط لا واعية. بمجرد أن تُدرك وجود هذا الصوت وتتعرف عليه، تصبح الشخص الواعي الذي يراقب، مما يُضعف تأثير تلك الأفكار السلبية عليك.

في أعماقنا، هناك نوعان من الوعي: الأول هو الوعي الذي يقود إلى النفس المطمئنة، وهو الوعي الذي يتجلى حين ندرك أن هناك إمكانية للتحرر من مشاعر القلق والشعور بالذنب. بينما النفس اللوامة هي النفس التي تُشعر بالندم واللوم، وتحمل الوسوسة التي قد يزرعها الشيطان. ولكن، لا بد أن نفهم أن النفس المطمئنة ليست مجرد شعور بالسلام الداخلي؛ بل هي وعي عميق يفكر ويشعر بطريقة سليمة، وهي فطرة من نفخة الروح، تختلف تمامًا عن النفس الأمارة بالسوء أو النفس اللوامة التي تتأثر بالأفكار السلبية.

كل هذه الأنماط من النفس موجودة داخلنا، ونحن فقط من نقرر أي نفس نريد أن ننمّي. إذا كنا نسعى لنماء النفس المطمئنة، فلن نجد مجالًا للنفس اللوامة. قد تظهر هذه النفس اللائمة بين الحين والآخر، ولكن مع كل مرة نتعرف عليها ونتخلى عنها، تضعف تدريجيًا حتى تتلاشى تمامًا.

في بعض الأحيان، قد نجد أنفسنا مضطرين لاتخاذ خطوات عملية لحماية أنفسنا من أشخاص قد لا يكونون واعين بعمق، ولكن يمكننا القيام بذلك دون أن نحولهم إلى أعداء. أعظم حماية تحصل عليها هي أن تكون في حالة من الوعي الكامل. فبدلاً من الشخصنة، التي تحول الآخرين إلى خصوم، يكمن التفاعل الحقيقي في قوة الغفران. التفاعل هنا لا يعني الضعف، بل هو قوة حقيقية تنبع من القدرة على العفو والتسامح. تجدون هنا مقال عن كتاب صناعة الواقع.: كيف تخلق عالمك بنفسك.

عندما تغفر، فإنك تتجاوز تلك المشاعر السلبية وتنظر إلى الناس من خلال روحك المطمئنة، لا من خلال النفس اللوامة. في تلك اللحظة، ترى جوهر الناس وروح الله التي تسكن فيهم، كما قال تعالى: “فَأَيْنَمَا وَلَّيْتَ فَثَمَّا وَجْهُ اللَّـهِ”.

ليكم فيديو مميز يتناول كيفية تعزيز حب الذات.

“ملاحظة: هذا المقال عن الشكوى و التذمر هو مزيج من أفكاري الشخصية وبعض الأفكار المستوحاة من أعمال الكاتب إيخارت تول، من كتابه ‘الأرض الجديدة’. تم استخدام هذه الأفكار بشكل نقدي وتوافقي مع مضمون المقال، مع السعي لإضافة قيمة وتوضيح من خلال تقديم رؤى جديدة. لم يتم النقل الحرفي لأي نص من المصادر المذكورة.”

جدول المحتوى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *