ذكرنا في المقال السابق أن الإنسان يعيش داخله ثلاثة أنواع من النفوس المعروفة: النفس المطمئنة، والنفس الأمارة، والنفس اللوامة. ويملك الإنسان حرية الاختيار في تنمية أي منها داخله. بالنسبة للنفس الأمارة والنفس اللوامة، يُمكن اعتبارهما ما يُعرف في علم النفس بـ”الأنا”، بينما ترتبط النفس المطمئنة بالوعي وحضور الله في حياة الإنسان. تتميز الأنا (سواء النفس اللوامة أو النفس الأمارة) بأنماط فكرية قد تجعل الإنسان يُسبب لنفسه المعاناة. من أبرز هذه الأنماط الشعور بالتظلم و لعب دور الضحية.
التظلم هو أن يحمل الإنسان شعورًا داخليًا ناتجًا عن تجربة مؤلمة من الماضي، حيث يعيد إحياء هذه التجربة مرارًا وتكرارًا من خلال التفكير القهري، و عبر اعادة سرد القصة في الرأس أو بصوت عال حول”ما فعله أحدهم بي”، او “ما فعله أحدهم بنا”. مما يجعله يعتقد أن شخصًا ما ظلمه، أو أن ظرفًا ما كان معاديًا له. قد يصل هذا الشعور أحيانًا إلى درجة اعتقاد الشخص بأن الله نفسه قد ظلمه.
بل يمتد ليؤثر سلبًا على حياتك الحالية. فعندما تغرق في مظلوميتك وتعيش تفاصيلها، يمكن للشحنة العاطفية السلبية المرتبطة بها أن تشوه إدراكك للأحداث الحالية، أو تؤثر في أسلوبك عند التفاعل مع الآخرين. مظلومية واحدة، إذا كانت قوية بما يكفي، قد تتغلغل في جوانب مختلفة من حياتك، وتُبقيك محاصرًا في دائرتها.
الشخص الذي يعيش في حالة تظلم يكون دائمًا في حالة عدائية، سواء داخليًا أو خارجيًا. داخليًا، يعيد سرد القصة المؤلمة في عقله مرارًا وتكرارًا، وكأنه يعيش الحدث مجددًا. وخارجيًا، ينتظر بفارغ الصبر حدثًا جديدًا ليتفاعل معه، محضرًا في ذهنه سيناريوهات للشجار، كأن يقول: “إذا قال لي كذا، سأرد عليه بكذا”. هذا التفاعل المستمر مع الأحداث يخلق دورة دائمة من المشاعر السلبية، ولا يمر وقت طويل حتى يجد الشخص نفسه في موقف جديد مشابه يجذب فيه نفس المشاعر.
هذا النوع من الأشخاص قد يصبح مدمنًا على مشاعر الاستياء والغضب. تلك المشاعر تمنحه إحساسًا بالطاقة والانشغال، مما يساهم في شعوره بـ”أنا موجود”. إلا أن الحقيقة المؤلمة خلف هذا التظلم هي شعور عميق بالعوز العاطفي والرغبة في جذب الانتباه. غالبًا ما يلجأ هؤلاء إلى خلق نوع من الدراما، ظنًا منهم أنها ضرورية لجعل الآخرين يلاحظونهم ويهتمون بهم.
لكن هذا السلوك، بدلًا من أن يُحقق لهم القبول أو الاهتمام الذي يسعون إليه، يؤدي إلى تعميق عزلتهم. فالمشاعر السلبية والعدائية تخلق حاجزًا بين الشخص والآخرين، وتجعل تفاعلاته محكومة بالاستياء والخوف بدلًا من الوضوح والتواصل الصحي.
هذا الشعور بالتظلم سلبي بطبيعته، إذ يخلق معاناة داخل الإنسان. ورغم ذلك، قد يجد البعض متعة في الانجراف وراء هذا الإحساس، حيث يغذي الاعتقاد بأنهم مظلومون وأن الفرج قادم. لكن في الحقيقة، هذا ليس سوى شكل من أشكال المعتقدات الخاطئة.
أي حدث وقع في الماضي ليس إلا تحديًا كان يهدف إلى تعليمك وتطويرك. استمرارك في إحياء الماضي يعني أنك تبقى عالقًا في نفس المكان، دون تقدم.
جذر هذا الشعور بالتظلم يكمن في خوفك من مواجهة الواقع، من أن تكون نكرة، لا شيء، الخوف من الموت. ومع مرور الوقت، تجد نفسك تلعب دور الضحية.
دور الضحية
دور الضحية في خلفيته العميقة هو سعي الشخص الذي يراه لنفسه كضحية إلى جذب اهتمام الآخرين وتعاطفهم وحتى شفقتهم تجاه ما يمر به أو ما يُدعى أنه تعرض له. هذا النمط السلوكي ينتمي إلى النفس اللوامة، حيث يُهيمن الإحساس بالإهانة والتظلم.
عندما يواجه الشخص موقفًا معينًا يجعله يشعر بأنه أُهين أو ظُلم، فإنه قد يتماهى مع القصة أو الحدث بشكل عميق، مما يجعله غير راغب في التخلي عنها أو تجاوزها. السبب؟ يرى في استمرار القصة فرصة ليحصل على تعاطف الآخرين أو على الأقل اهتمامهم. حتى في غياب من يُصغي إليه، يستمر الشخص في تكرار القصة لنفسه، مُضفيًا على نفسه دور الضحية ومتخيلاً مشاعر التعاطف الذاتية وكأنها تأتي من الآخرين.
هذا التكرار يمنحه إحساسًا زائفًا بالهوية؛ إذ يبدأ في تعريف نفسه كشخص ظُلم أو عومل بطريقة غير عادلة من قِبل الآخرين، أو حتى من قِبل الحياة نفسها، وربما يصل الأمر إلى الاعتقاد بأن الله قد ظلمه. في هذه اللحظات، يشعر بالأهمية تجاه نفسه وكأن هذه المشاعر تمنحه مكانة أو قيمة.
لكن الحقيقة أن هذا السلوك ينبع من أنماط عقلية زائفة ناتجة عن تأثير النفس اللوامة أو الأمارة بالسوء، أو ما يُعرف في علم النفس بالـ”أنا”. هذه الأنماط، إذا استمرت دون وعي أو مواجهة، تُصبح وسيلة لتضخيم المشاعر السلبية وخلق دائرة مغلقة من التظلم والتألم. وقد يرى البعض أن هذه الوساوس ليست إلا من تأثير الشيطان، الذي يُغذي هذه الأفكار لتعميق الشعور بالعجز والانفصال عن الحقيقة الإيجابية للحياة.
في النهاية، لعب دور الضحية ليس إلا هروبًا من مواجهة المسؤولية الحقيقية عن النفس، وهو نمط يحتاج إلى وعي عميق لكسره والانتقال إلى نمط حياة أكثر صحة وتوازنًا. لكن كيف؟
عندما تدرك أن كل شيء موجود بداخلك، سواء كانت النفس الأمارة بالسوء أو النفس المطمئنة، تصبح حرًا في اختيار أي نفس ترغب في تنميتها. الأمر ليس معقدًا؛ إنه بسيط جدًا.
على سبيل المثال، عندما تجد نفسك في حالة عدائية أو لديك رغبة في سرد قصة ما تعكس شعورك بالضحية أو التظلم، فإنك بمجرد أن تدرك أنك تلعب هذا الدور تكون قد دخلت في حالة من الوعي. هذا الإدراك لما يحدث داخلك هو ما يفتح الباب لتنمية النفس المطمئنة (الوعي).
النفس المطمئنة والـ”أنا” (المتمثلة في النفس اللوامة أو الأمارة) لا يمكن أن تعيشا معًا بانسجام؛ فهما متضادتان. عندما تُنمي إحداهما، تتراجع الأخرى تلقائيًا.
على سبيل المثال، إذا وجدت نفسك تعيش دور الضحية بسبب شيء حدث في الماضي، فإن الوعي يكمن في أن تعترف بحقيقة أنك الآن تلعب هذا الدور. هذا الاعتراف نفسه هو بداية الوعي، وهو ما يسمح لهذا الدور بأن يتنحى جانبًا.
في البداية، قد يكون الأمر صعبًا، لكن مع كل مرة تدرك فيها ما يحدث بداخلك، تسمح للوعي بالتسلل إلى أعماقك. ومع مرور الوقت، ينمو هذا الوعي تدريجيًا، بينما تتضاءل “الأنا” بداخلك حتى تتلاشى تمامًا. هذا التحول يحدث من خلال التمرين المستمر على مراقبة نفسك وتذكيرها بأن أدوار الضحية، التظلم، أو غيرها من أنماط العقل الزائفة ليست إلا أوهامًا لا أساس لها من الحقيقة.
هذه الأنماط لا تفعل شيئًا سوى تلويث عالمك الداخلي وخلق المعاناة لنفسك ولمن حولك. إدراكك لهذه الحقيقة يمنحك الحرية في اختيار السلام الداخلي بدلاً من خلق الدراما في حياتك. الدراما لا تقدم شيئًا مفيدًا في الحياة سوى زيادة الألم والمعاناة. لذلك، كن دائمًا مدركًا لما يجري داخلك، وذكّر نفسك بأن تعيش في حالة سلام مع نفسك ومع الحياة. بهذه الطريقة، ستجد نفسك في حالة توافق وانسجام مع الوجود، مع الله.
ليكم فيديو مميز يتناول كيفية تعزيز حب الذات.